الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (46- 53): {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك، ذكر ظهور الصلاح. والكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم؛ فذكر من أعلام قدرة إرسال الرياح مبشرات بالمطر، لأنها متقدمة. والمبشرات: رياح الرحمة، الجنوب والشمال والصبا، وأما الدبور، فريح العذاب، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام، وهو التبشير. وقرأ الأعمش: الريح، مفرداً، وأراد معنى الجمع، ولذلك قرأ: {مبشرات}. ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة، وهي نزول المطر، ويتبعه حصول الخصب، والريح الذي معه الهبوب، وإزالة العفونة من الهواء، وتذرية الحبوب، وغير ذلك. {وليذيقكم}: عطف على معنى مبشرات، فالعامل أن يرسل، ويكون عطفاً على التوهم، كأنه قيل: ليبشروكم، والحال والصفة قد يجيئان، وفيهما معنى التعليل. تقول: أهن زيد أسيأ وأكرم زيداً العالم، تريد لإساءته ولعلمه. وقيل: ما يتعلق به اللام محذوف، أي ولكنا أرسلناها. وقيل: الواو في وليذيقكم زائدة. و{بأمره}: أي بأمر الله، يعني أن جريانها، لما كان مسنداً إليها، أخبر أنه بأمره تعالى. {من فضله}: مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر، ومن غنائم أهل الشرك. ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء، ولما كان تعالى بين الأصلين: المبدأ والمعاد، بين ذكر الأصل الثالث، وهو النبوّة؛ وفي الكلام حذف تقديره: وآمن به بعض وكذب بعض، {فانتقمنا من الذين أجرموا}.وفي قوله: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}: تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر، إذ أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم، وتكريم للمؤمنين، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر. والظاهر أن {حقاً} خبر كان، و{نصر المؤمنين} الاسم، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء، إذ هو محط الفائدة. وقال ابن عطية: وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم، ثم استأنف جملة من قوله: {علينا نصر المؤمنين}، وهذا قول ضعيف، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية. وقال الزمخشري: وقد يوقف على {حقاً}، ومعناه: وكان الانتقام منهم حقاً، ثم يبتدأ علينا {نصر المؤمنين}. انتهى. وفي الوقف على {وكان حقاً} بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً، بل عدلاً، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث.{الله الذي يرسل الرياح}، هذا متعلق بقوله: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات}، والجملة التي بينهما اعتراض، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر، وفي إرسالها قدرة وحكمة.أما القدرة، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء، وهو ليس بذاته يفعل ذلك، بل بفاعل مختار. وأما الحكمة، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب، وإخراج الماء منه، وإنبات الزرع، ودر الضرع، واختصاصه بناس دون ناس؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة، تحريكها وتسييرها. والبسط: نشرها في الآفاق، والكسف: القطع. وتقدم الكلام على قوله: {فترى الودق يخرج من خلاله}، وذكر الخلاف في {كسفاً} وحاله من جهة القراء. والضمير في: {من خلاله}، الظاهر أنه عائد على السحاب، إذ هو المحدث عنه، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه. قيل: ويحتمل أن يعود على {كسفاً} في قراءة من سكن العين، والمراد بالسماء: سمت السماء، كقوله: {وفرعها في السماء} {فإذا أصاب به من يشاء}: أي أرض من يشاء إصابتها، فاجأهم الاستبشار، ولم يتأخر سرورهم. وقال الأخفش: {من قبله} تأكيد لقوله: {من قبل أن ينزل عليهم}.وقال ابن عطية: أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن قوله: {من قبل أن ينزل عليهم} يحتمل الفسحة في الزمان، أي من قبل أن ينزل بكثير، كالأيام ونحوه، فجاء قوله: {من قبل} بمعنى: أن ذلك متصل بالمطر، فهو تأكيد مقيد. وقال الزمخشري: وبمعنى التوكيد، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك. انتهى. وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله: {من قبله} غير ظاهر، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد، ويفيد رفع المجاز فقط. وقال قطرب: التقدير: وإن كانوا من قبل التنزيل، من قبل المطر. انتهى. وصار من قبل إنزال المطر: من قبل المطر، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح، فضلاً عن القرآن. وقيل: التقدير: من قبل تنزيل الغيث: من قبل أن يزرعوا، ودل المطر على الزرع، لأنه يخرج بسبب المطر؛ ودل على ذلك قوله: {فرأوه مصفراً}، يعني الزرع. انتهى. وهذا لا يستقيم، لأن {من قبل أن ينزل عليهم} متعلق بقوله: {لمبلسين}. ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف، أو على جهة البدل. وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف، ولا يصح فيه البدل، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع، ولا الزرع بعضه. وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف. أما لاشتمال الإنزال على الزرع، بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال، فكأن الإنزال مشتمل عليه، وهذا على مذهب من يقول: الأول يشتمل على الثاني. وقال المبرد: الثاني السحاب، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين. وقال علي بن عيسى: من قبل الإرسال. وقال الكرماني: ومن قبل الاستبشار، لأنه قرنه بالإبلاس، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار.انتهى. ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف، أمكن، لكن في حذف حرف العطف خلاف، أينقاس أم لا ينقاس؟ أما حذفه مع الجمل فجائز، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف.وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو بكر: إلى أثر، بالإفراد؛ وباقي السبعة: بالجمع؛ وسلام: بكسر الهمزة وإسكان الثاء. وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوة: تحيي، بالتاء للتأنيث، والضمير عائد على الرحمة. وقال صاحب اللوامح: وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها، فاكتسب التأنيث منها، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه، أو من سببه. وأما إذا كان أجنبياً، فلا يجوز بحال. انتهى. وقرأ زيد بن علي: نحيي، بنون العظمة؛ والجمهور: {يحيي}، بياء الغيبة، والضمير لله، ويدل عليه قراءة {آثار} بالجمع، وقيل: يعود على أثر في قراءة من أفرد. وقال ابن جني: {كيف يحيي} جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى، كأنه قال: محيياً، وهذا فيه نظر. {إن ذلك}: أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها، هو الذي يحيي الناس بعد موتهم. وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى.{ولئن أرسلنا ريحاً}: أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم، أنه بعد الاستبشار بالمطر، بعث الله ريحاً، فاصفر بها النبات. لظلوا يكفرون قلقاً منهم، والريح التي تصفر النبات صر حرور، وهما مما يصبح به النبات هشيماً، والحرور جنب الشمال إذا عصفت. والضمير في {فرأوه} عائد على ما يفهم من سياق الكلام، وهو النبات. وقيل: إلى الأثر، لأن الرحمة هي الغيث، وأثرها هو النبات. ومن قرأ: آثار، بالجمع، رجع الضمير إلى آثار الرحمة، وهو النبات، واسم النبات يقع على القليل والكثير، لأنه مصدر سمى به ما ينبت. وقال ابن عيسى: الضمير في {فرأوه} عائد على السحاب، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر؛ وقيل: على الريح، وهذان قولان ضعيفان. وقرأ صباح بن حبيش: مصفاراً، بألف بعد الفاء. واللام في {ولئن} مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعاً تقديره: ليظلن، ونظيره قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار، وإن تصبروا على بلائه كفروا. والضمير في {من بعده} عائد على الاصفرار، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته. وتقدم الكلام على قوله: {فإنك لا تسمع الموتى} إلى قوله: {فهم مسلمون} في أواخر النمل، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله: {فإنك}..تفسير الآيات (54- 60): {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}لما ذكر دلائل الآفاق، ذكر شيئاً من دلائل الأنفس، وجعل الخلق من ضعف، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته، كقوله: {خلق الإنسان من عجل} والقوة التي تلت الضعف، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال. والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم. وقيل: {من ضعف}: من النطفة، كقوله: {من ماء مهين} والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه. وقرأ الجمهور: بضم الضاد في ضعف معاً؛ وعاصم وحمزة: بفتحها فيهما، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء. وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك: الضم والفتح في الثاني. وقرأ عيسى: بضمتين فيهما. والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف. وقال كثير من اللغويين: الضم في البدن، والفتح في العقل. {ما لبثوا}: هو جواب، وهو على المعنى، إذ لو حكى قولهم، كان يكون التركيب: ما لبثنا غير ساعة، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة، وما لبثوا في الدنيا: استقلوها لما عاينوا من الآخرة، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم، أو على جهة النسيان، أو الكذب. {يؤفكون}: أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق.{الذين أوتوا العلم}: هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون. {في كتاب الله}: فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره، ولكن نص على هذا الخاص تشريفاً وتنبيهاً على محله من العلم. وقيل: {في كتاب الله}: اللوح المحفوظ، وقيل: في علمه، وقيل: في حكمه. وقرأ الحسن: البعث، بفتح العين فيهما، وقرئ: بكسرها، وهو اسم، والمفتوح مصدر. وقال قتادة: هو على التقديم والتأخير، تقديره: أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان. {لقد لبثتم}: وعلى هذا تكون في بمعنى الباء، أي العلم بكتاب الله، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة، فإن فيه تفكيكاً للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح، فكيف يسوغ في كلام الله؟ وكان قتادة موصوفاً بعلم العربية، فلا يصدر عنه مثل هذا القول. والفاء في: {فهذا يوم البعث} عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها، وهي: {لقد لبثتم}، اعتقبها في الذكر. قال الزمخشري: فإن قلت: ما هذه الفاء، وما حقيقتها؟ قلت: هي التي في قوله:وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام، كأنه قال: إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول: قد جئنا خراساناً، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة، لم يتكلف إضمار شرط، وجعل الفاء جواباً لذلك الشرط المحذوف، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه. وقيل: لا تعلمون البعث ولا تعرفون به، فصار مصيركم إلى النار، فتطلبون التأخير.{فيومئذ}: أي يوم إذ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم. وقرأ الكوفيون: {لا ينفع}، بالياء هنا وفي الطول، ووافقهم نافع في الطول؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث. {ولا هم يستعتبون}، قال الزمخشري: من قولك: استعتبنى فلان فأعتبته: أي استرضاني فأرضيته، وذلك إذا كان جانياً عليه، وحقيقته: أعتبته: أزلت عتبه. ألا ترى إلى قوله: كيف جعلهم غضاباً. ثم قال: فأعتبوا: أي أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والمعنى: لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، ومثله قوله تعالى: {فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون} فإن قلت: كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات، وغير معتبين في بعضها؟ وقوله: {وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين} قلت: أما كونهم غير مستعتبين، فهذا معناه؛ وأما كونهم غير معتبين، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه؛ فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم، فهم عاتبون على الجاني، غير راضين منه. فإن يستعتبوا الله: أي يسألوه إزالة ما هم فيه، فما هم من المجابين إلى إزالته. وقال ابن عطية: هذا إخبار عن هول يوم القيامة، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار، ولا يعطون عتبى، وهو الرضا. ويستعتبون بمعنى: يعتبون، كما تقول: يملك ويستملك. والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه، ولا يطلب منهم عتبى. انتهى. فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد، وهو عتب، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب. وقد قيل: لا يعاتبون على سيئاتهم، بل يعاقبون. وقيل: لا يطلب لهم العتبى. وقيل: لا يلتمس منهم عمل وطاعة، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار. وقال الزمخشري: وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن، كصفة المبعوثين يوم القيامة، وما يقال لهم، وما لا يقع من اعتذارهم، ولا يسمع من استعتابهم، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا: أجئتنا بزور باطل؟ انتهى. و{أنتم}: خطاب للرسول والمؤمنين، أي: تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء. وقال أبو عبد الله الرازي: وفي توحيد الخطاب بقول: {ولئن جئتهم}، والجمع في قوله: {إن أنتم} لطيفة، وهي: أن الله عز وجل قال: {ولئن جئتهم} بكل آية جاءت بها الرسل، فيمكن أن يجاوبوه بقوله: أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون.{كذلك يطبع الله}: أي مثل هذا الطبع يطبع الله، أي يحتم على قلوب الجهلة الذين قد حتم الله عليهم الكفر في الأزل، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى، إذ هو فاعل ذلك ومقدره.وقال الزمخشري: ومعنى طبع الله: صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق، ثم قال: فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لابد من إنجازه والوفاء به، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة. وقرأ ابن أبي إسحاق، ويعقوب: ولا يستحقنك: بحاء مهملة وقاف، من الاستحقاق؛ والجمهور: بخاء معجمة وفاء، من الاستخفاف؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب، والمعنى: لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين.
|